Logo_Header
bg
Nuclear personality before nuclear plant i don't charge for being fair
HAPPY SUPPLIER +
HAPPY OWNER =
SUCCESSFUL PROJECT
رضاع الكبير و إستعادة شخصيتنا المؤسساتية
4 February 2023

رضاع الكبير و إستعادة شخصيتنا المؤسساتية

بقلم: خالد الخاجة

 

و الحل في أن تستعيد أمتنا شخصيتها المؤسساتية و الجريئة. و الى ذلك الحين، لن أستغرب إن إستنكر المسلمون في عصرنا تشريعات و ممارسات عمل بها السابقون من رواد القرون الخيرية (مجتمع مؤسساتي) على عهد الرسول محمد (ﷺ) و سلفه الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم، و التابعين لهم باحسان.

فمُخرجات منهجية السابقون من القرون الخيرية كانت مؤسساتية و متزنة، تراعي الواقع و المهام و الواجبات و المخاطر. في حين أن مُخرجات منهجية اللاحقون لهم، هي مجموعة من التشريعات و الممارسات المنحازة، فتميل كل الميل لمحاربة مخاطر الفتن دون مراعاة للمهام و الواجبات. و هذا ما يجعلنا نعبس و نتولى عن ما يبدوا لنا و كأنها ممارسات إباحية و متهورة، كانت شائعة بين السابقين في القرون الخيرية. و لأننا عاجزون عن تكذيب تلك الممارسات القرآنية الصحيحة و الصريحة، نسعى بحسن نية إلى تأويلها أو تقييدها و التضييق عليها، درءاً للفتنة.

الى الآن، لن الومك أيها القارئ الكريم إذا رددت في نفسك و انت تحك ذقنك مذهولاً و مُشككاً: قد جُنَّ خالد و ضل! أقول: إطمئن يا فارس الحقيقة، و أعرني آذان عقلك الحر و قلبك الشجاع، و إنهي القرآءة الى خط النهاية، و من ثم لك أن تحكم علي بالجنون أو الماسونية.

و لكي نستسيغ هذا الحل، لابد أن نتطرق الى عدد من مُخرجات السابقون في القرون الخيرية و منهجياتهم المؤسساتية و الجريئة، و هي: عورة المسلمة الحرة و عورة الأَمَة المسلمة و رضاع الكبير، علماً بأن هذه الممارسات تعد استثنائية و مدهشة اذا ما قورنت بالممارسات التي كانت تعم العالم في تلك العصور.

أولا: عورة المسلمة الحرة

أجاز السابقون في القرون الخيرية أن تتبرج المسلمة الحرة في بيتها أمام مملوكها الذكر البالغ، و أجازوا لها أن تكتفي بستر عورتها (من السرة الى الركبة) و تخفيف ملابسها إذا إقتضت الحاجة، و بالتالي إعفائها من مشقة و عقبة إرتداء الحجاب و الثياب في بيتها أمام مملوكها الذكر، و بالرغم من المخاطر و الفتن التي قد تترتب على المجتمع بسبب تبرجها. فقد إعتبروا المملوك من محارمها الرجال بهدف تحسين جودة حياتها و إعانتها على أن تقَرَّ في بيتها، و هي الغاية الأسمى كما في الآية 33 من سورة الأحزاب }وَ قَرنَ فِی بُیُوتِكُنَّ وَ لَا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ ٱلجَـٰهِلِیَّةِ ٱلأُولَىٰ{. و بموجب هذا التشريع الجريء، تم مساواة المسلمة الحرة بالمسلم الحر في حق امتلاك العبيد (الذكور). في الحقيقة، هذا تشريع مؤسساتي بحت، يوازن بين منافع أن تَقرَّ الحُرَّة في بيتها و مخاطر تبرجها امام مملوكها الذكر، بمنتهى الواقعية و العدالة و الانسانية. و إقرأ إن شئت في تفسير  الآية 31 من سورة النور {أَو مَا مَلَكَت أَیمَـٰنُهُنَّ}.

كما أجاز السابقون في القرون الخيرية للنساء الَّاتي قَعَدنَ عن الولد و الحيض و الأزواج بسبب الكبر، أن تضع بعض ثيابها أمام الرجال بشرط عدم التزين، و ذلك بهدف تحسين جودة حياة المُقعَدات من النساء الحرائر بتمكينها من تخفيف ملابسها، و بالتالي إعفائها من مشقة و عقبة إرتداء الجلباب و الرداء فوق ثيابها. في الحقيقة، هذا تشريع مؤسساتي بحت، يوازن بين منافع إحتشام المسلمة الحُرَّة المُقعَدة و مخاطر تبرجها أمام الرجال، بمنتهى الواقعية و العدالة و الانسانية. و إقرأ إن شئت في تفسير الآية 60 من سورة النور {فَلَیسَ عَلَیهِنَّ جُنَاحٌ أَن یَضَعنَ ثِیَابَهُنَّ}.

 ثانيا: عورة الأَمَة المسلمة

إعتبر السابقون في القرون الخيرية عورة الأَمَة المسلمة (الجارية و المملوكة البالغة) كعورة الرجل، من السُّرة الى الركبة. و يهدف هذا التشريع الجريء الى تحسين جودة حياة النساء المملوكات و اللاتي أُمِرنَ بانجاز الأعمال الشاقة خارج البيت كالرجال المسلمين الأحرار. و عليه، قاموا بمساواتها بالمسلم الحر و تمكينها من تخفيف ملابسها إذا إقتضى عملها ذلك، و بالتالي إعفاؤها من مشقة و عقبة إرتداء الحجاب و الثياب أثناء أداء واجباتها، كما يفعل المسلم الحر. و بمقتضى هذا الحكم، لا بأس على الأَمَة المسلمة أن تأخذ بالرخصة و تضع ثيابها، بالرغم من المخاطر التي قد تترتب على المجتمع بسبب تبرجها. في الحقيقة، هذا تشريع مؤسساتي بحت، يوازن بين منافع قيام الأَمَة بمهام الرجال و مخاطر تبرجها على المجتمع، بمنتهى الواقعية و العدالة و الانسانية.

 ثالثا: رضاع الكبير

و أجاز بعض السابقون في القرون الخيرية و على رأسهم المصطفى (ﷺ)، ممارسة "رضاع الكبير" بهدف تحسين جودة حياة النساء الَّاتي أُمِرنَ بأن يَقَرنَ في بيوتهن، و ذلك بتمكينها من توسيع نطاق محارمها من الذكور عند الحاجة من خلال إرضاع الكبير البالغ الحر، و بالتالي إعفائها من مشقة إرتداء الحجاب و التستر في بيتها أمام من يرتاد عليها باستمرار. في الواقع، ما تكشفه هذه الرواية لنا هو مدى واقعية ذاك المجتمع المسلم النقي و تقدمه فكرياً و ثقافياً. فهذا تشريع مؤسساتي بحت، يوازن بين منافع أن تَقرَّ المسلمة الحُرَّة في بيتها و مخاطر تبرجها أمام معين لا تستطيع أن تستغني عنه و يرتاد عليها كثيرا او مخاطر خروجها المتكرر من البيت لقضاء حوائجها اليومية، بمنتهى الواقعية و العدالة و الانسانية.

و إعلم أيها القارئ الكريم أن رواية "رضاع الكبير" صحيحة و رَوَتهَا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و أرضاها. و إعلم بأنني كرجل مؤسساتي أعتز بهذه الرواية و أخواتها، و أجدها من أعمق الرويات و إن كانت غريبة، و لا أجد حرجاً في قبولها البتة. و إليك نموذجاً لتلك الرواية، و رقمها 1453 كما وردت في صحيح الامام مسلم رحمه الله، كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير:

"عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ (ﷺ) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ (و َهُوَ حَلِيفُهُ).‏ فَقَالَ النَّبِيُّ (ﷺ): ‏"‏أَرْضِعِيهِ"‏.‏ قَالَتْ: وَ كَيْفَ أُرْضِعُهُ وَ هُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟! فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) و َقَالَ: ‏"‏قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ"‏.‏

https://sunnah.com/muslim:1453a

و قد نقل لنا الدكتور ماهر ياسين الفحل (كلية العلوم الاسلامية، الرمادي، جامعة الأنبار، قسم الفقه و أصوله) في بحثه المتميز "لا تحريم بإرضاع الكبير" قول جمهور العلماء بأن: الرضاع الذي يؤثر في التحريم هو ما كان في  الحولين (أول سنتين من عمر الرضيع). فإذا أرضع الصبي بعد تجاوزهما، فلا أثر لهذا الرضاع في التحريم. و هذا رأي الرافضين لرضاع الكبير، و الدكتور ماهر يرجح هذا الرأي في بحثه. إلا أنه قد نقل لنا أيضاً أقوال للمتقدمين في مسألة رضاع الكبير، و هي كالتالي:

القول الأول: من رفض رضاع الكبير مطلقاً، و هذا كما ذكر الدكتور ماهر هو رأي معظم الصحابة رضوان الله عليهم و جمهور العلماء.

القول الثاني: من قَبَلَ برضاع الكبير مطلقاً، و هذا رأي بعض الصحابة و على رأسهم أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليهم.

القول الثالث و الوسط (و هو الذي أميل اليه): من قبل رضاع الكبير عند الحاجة و ليس مطلقاً. و هذا الرأي إختاره الامام ابن تيمية رحمه الله، و حكاه عنه الامام ابن القيم رحمه الله و ذكر أنه الأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث، و اختاره أيضاً الامام الشوكاني و الامام الصنعاني و غيرهما رحمهم الله. و الأكثرون من القائلين بهذا الرأي يرون أن تجمع المرضعة حليبها في كأس ليشرب منه الكبير، دون الحاجة الى الملامسة.

الأمثلة السابقة تجسد مدى واقعية و اتزان احكام السابقون في القرون الخيرية. فقد كانوا يعينون المسلمة الحرة للعمل بالآية 33 من سورة الأحزاب {وَ قَرنَ فِی بُیُوتِكُنَّٰ} من خلال مساواة حقوقها بحقوق الرجال في إمتلاك العبيد، و يعينون الأَمَة المسلمة على العمل الشاق خارج البيت كالرجل المسلم الحر من خلال مساواة عورتها بعورة الرجال. يا له من مجتمع جريء و واقعي و متزن و مؤسساتي!

و يتجلى لنا تميز السابقون في القرون الخيرية، إن تأملنا في التشريعات التي لم يتبنوها. فعلى سبيل المثال، في مسألة تعامل المسلمة الحرة مع مملوكها، كان بامكانهم أن يحرموا على المسلمة الحرة أن تمتلك مملوكاً ذكراً من باب درء الفتنة، فيحرموها بذلك من ما يحل للمسلم الحر، و لكنهم لم يستسيغوا هذا الحل. و كان بامكانهم أن يوجبوا الحجاب على المسلمة الحرة في حضرة مملوكها الذكر من باب درء الفتنة، فيشقوا بذلك عليها في بيتها، ولكنهم لم يتبنوا هذا الحكم.

و يعلل الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله على موقعه الالكتروني سبب تساهل السابقون في القرون الخيرية بشأن عورة الأَمَة المسلمة قائلاً:

"جاء الشرع بالتفريق بين الحرائر و الإماء، فالحرة تحتجب الحجاب الكامل، و الأمة تبرز، و يجوز لها كشف رأسها و يديها و وجهها لكثرة الحاجة في استخدامهن، و كان فرض الحجاب عليهن مما يشق مشقة بالغة".

https://islamqa.info/ar/answers/220750

كما يصف لنا الشيخ محمد صالح المنجد على موقعه الالكتروني إماء الخليفة عمر رضي الله عنه، قائلاً:

"قال البيهقي رحمه الله في سننه  3222: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّ إِمَاءُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَخْدِمْنَنَا كَاشِفَاتٍ عَنْ شُعُورِهِنَّ تَضْرِبُ ثُدِيّهُنَّ". و هذا إسناد حسن.

https://islamqa.info/ar/answers/198645/

و نقل لنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى، كيف كان الخليفة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه يضرب الأَمَة المملوكة إذا خرجت و هي متحجبة كالمسلمات الحرائر:

"و كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا وَ قَالَ: أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ أَيْ لَكَاع؟"

https://islamqa.info/ar/answers/198645/

و للأسف الشديد و كما ذكرت سابقاً، لا أحتاج لإجراء إستبيان لأجزم بأن الأغلبية من عامة الأمة اليوم ستستنكر الأمثلة السابقة و ستجد حتى الحديث عنها إثارة للمَفسَدَة. بل و ستعتبرها ممارسات إباحية و  متهورة، رغم أنها كانت شائعة بين السابقون في القرون الخيرية.

أما أئمتنا الأجلاء و علماؤنا الكرام، فلم ينكروا أن في زمن القرون الخيرية، كان بامكان الأَمَة المسلمة (و إن كانت بالغة) أن تخرج على الرجال و هي تغطي ما بين سرتها و ركبتها، حالها حال المسلم الحر. و لم ينكروا بأن الأَمَة المسلمة (على خلاف المسلمة الحرة) كانت مُطَالبَة بأداء العمل الشاق خارج البيت كالمسلم الحر (لا أن تَقَرَّ بالبيت كالمسلمة الحُرة). إلا أن العلماء إختلفوا في جزئيات مسألة رضاع الكبير أو عورة الاَمَة المسلمة أمام الرجال أو عورة المسلمة الحُرة أمام مملوكها الذكر، بحسب عُرفهم و درجة تحفظهم. فالعلماء فئات ثلاث:

الفئة الأولى: فئة جليلة و  مخلصة، ولكنها بالغت في تحفظها و قلقها من الفتن، و ربما تعاني من رهاب (فوبيا) الفتن. فتُقدِّم مصلحة المجتمع على الفرد في سبيل القضاء على جميع الفتن، و لا ترضى بالتعايش مع الفتن إطلاقاً، مهما عظم الثمن على الفرد و مهما صغرت خطورة الفتنة على المجتمع. إلا أنهم (كشيخ الاسلام ابن تيمية و الامام ابن حزم و العلامة العثيمين، رحمهم الله) يحضون بثقتي، فهم صحابة عصرهم و أئمتي و قدوتي و إن اختلفت معهم في بعض الأمور.

الفئة الثانية: فئة انهمزمت لليبرالية، ضحية للاستعمار و من مخرجاته، تبالغ في تساهلها و متهورة في تعاملها مع الفتن، و قد تُقَدم مصلحة الفرد على المجتمع. فترضي بالتعايش مع مخاطر الفتن "كأمر واقع"، و مهما عظمت خطورة و ثمن تلك المخاطر على المجتمع. و من علاماتهم القدح في علم الحديث و الطعن في عدالة الصحابة و تأويل القرآن بما تهوى أنفسهم بهدف محاكات الغرب الليبرالي. هؤلاء لا يحضون بثقتي و لا أعدهم قدوتي، و إن اتفقت معهم في بعض الأمور.

الفئة الثالثة: فئة وسط و منهجيتها مؤسساتية، حيث توازن بين مخاطر الفتن و حقوق الفرد و المجتمع. و قد ترضي بالتعايش مع شيء من الفتن المحسوبة في سبيل تحقيق مصلحة أعظم، و هي منهجية الأكثرون من السابقون في القرون الخيرية. هؤلاء (كالشيخ عادل الكلباني و الشيخ صالح المغامسي، حفظهم الله) يحضون بثقتي و تقديري، فهم صحابة عصرهم و أئمتي و قدوتي و إن اختلفت معهم في بعض الأمور.

لذلك و بالرغم من اختلاف وظائف الأَمَة و الحرة، إعتبر علماؤنا الأجلاء من الفئة الأولى عورة الأَمَة كالمسلمة الحرة (الأنثى كالأنثى) و رفضوا التعايش مع فتنة تبرج الأَمَة، وفق منهجية تُولي القضاء على المخاطر و درء المفاتن أهمية قصوى، و دون مراعاة لحقوق الأَمَة كانسانة و بالرغم من إختلاف مهامها عن المسلمة الحرة. و لأن علماؤنا من الفئة الأولى صادقون و أمناء، نجدهم عاجزون عن تكذيب تلك الممارسات الصريحة و الصحيحة و التي كانت رائجة في عهد السابقين. لذا، يسعون جاهدين إلى تأويلها أو تقييدها (بحسن نية) في سبيل القضاء على الفتن.

بينما إعتبر علماؤنا من الفئة الثالثة عورة الأَمَة كعورة الرجل (العاملة كالعامل) وفق منهجية مؤسساتية توازن بين مخاطر الفتن و الحقوق و المهام. فأخذوا بعين الاعتبار مصلحة الطرفين (الأَمَة و المجتمع). فاستنتجوا بأن من الأنانية و الظلم أن يستفيد المجتمع من قيام الأَمَة المسلمة باعمال الرجل المسلم الحر من دون أن تستفيد الأمَة من التسهيلات التي ينعم بها المسلم الحر في زيه (عورته) خارج البيت. لذا، إرتضوا بالتعايش مع مخاطر فتنة تبرج الأَمَة خارج بيتها.

و ينقل موقع "المكتبة الشاملة الحديثية" و كذلك موقع الشيخ محمد صالح المنجد، كلام العلامة العثيمين رحمه الله في "شرح الممتع"، قائلاً:

"الأَمَةُ (و لو بالغة) و هي المملوكة، فعورتها من السُّرَّة إلى الرُّكبة. فلو صلَّت الأَمَةُ مكشوفة البدن ما عدا ما بين السُّرَّة و الرُّكبة، فصلاتها صحيحة، لأنَّها سترت ما يجب عليها سَتْرُه في الصَّلاة".

https://al-maktaba.org/book/31615/29982

"و أما في باب النَّظر: فقد ذكر الفقهاءُ رحمهم الله تعالى أن عورة الأَمَة أيضاً ما بين السُّرَّة و الرُّكبة. ولكن شيخ الإسلام رحمه الله في باب النَّظر عارض هذه المسألة، كما عارضها ابن حزم في باب النَّظر و في باب الصَّلاة، و قال ابن حزم:

"إن الأَمَة كالحُرَّة، لأن الطَّبيعة واحدة و الخِلْقَة واحدة، و الرِّقُّ وصف عارض خارج عن حقيقتها و ماهيَّتها، و لا دليلَ على التَّفريق بينها و بين الحُرَّة".

و قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنَّ الإماء في عهد الرسول (ﷺ)، و إن كُنَّ لا يحتجبن كالحرائر، لأن الفتنة بهنَّ أقلُّ، فَهُنَّ يُشبهنَ القواعدَ مـن النِّساء اللاتي لا يرجون نكاحاً، قـال تعالى فيهن {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}" النور: من الآية 60. "و أما الإماء التركيَّات الحِسَان الوجوه، فهذا لا يمكن أبداً أن يَكُنَّ كالإماء في عهد الرسول (ﷺ)، و يجب عليها أن تستر كلَّ بدنها عن النَّظر، في باب النَّظر".

https://islamqa.info/ar/answers/220750/

قال (العلامة العثيمين): "و علَّل ذلك بتعليل جيِّدٍ مقبولٍ، فقال: "إن المقصود من الحجاب هو ستر ما يُخاف منه الفِتنة بخلاف الصَّلاة، و لهذا يجب على الإنسان أن يستتر في الصَّلاة، و لو كان خالياً في مكان لا يطَّلع عليه إلا الله. لكن في باب النَّظر إنما يجب التَّستر حيث ينظر الناس". قال: "فالعِلَّة في هذا غير العِلَّة في ذاك، فالعِلَّة في النَّظر: خوف الفتنة، و لا فرق في هذا بين النِّساء الحرائر و النِّساء الإماء".

و قوله صحيح بلا شكٍّ، و هو الذي يجب المصير إليه". انتهى كلام العلامة العثيمين، رحمه الله.

https://al-maktaba.org/book/31615/29982

عزيزي القارئ، إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح و تكميلها و تعطيل المفاسد و تقليلها. لذا، أتفق مع أئمتي الكرام أمثال ابن تيمية و ابن حزم و العثيمين رحمهم الله بإن إدارة مخاطر الفتن و إيجاد ما يزيلها أو ما يخفف عنها، تُعد ضرورة تشريعية و في صميم العمل المؤسساتي المحمود. لكن و بالرغم من أن إدارة مخاطر الفتن كانت أيضاً من أولويات مؤسسة السابقون في القرون الخيرية، إلا أننا نجدهم قد إختاروا التعايش مع بعض المخاطر و الفتن (التي أقلقت اللاحقون) بدلا من إزالتها، عملاً بمبدأ الأخذ بأدنى الشرين. و الدليل على ذلك، تقبل السابقون في القرون الخيرية التعايش مع مخاطر فتنة تبرج المسلمة الحرة في بيتها أمام مملوكها الذكر، و تقبلهم التعايش مع فتنة تبرج الأمَة المسلمة أمام الرجال خارج البيوت.

بل إن مؤسسة السابقون في القرون الخيرية قد تقبلت التعايش مع مخاطر فتنة الشرك و الكفر (و هي أمُّ المخاطر و الفتن) على أطفال المسلمين، عندما أَقرَّت للرجل المسلم الزواج من اليهودية و النصرانية، و بالتالي التعايش مع مخاطر فتنة إتخاذه مشركات و كافرات كأُمهات و مربيات لأطفاله.

ثم أعجب عندما أجد اللاحقون أمثال أئمتي الكرام ابن تيمية و ابن حزم و العثيمين رحمهم الله، و هم يزهدون في نهج السابقين في القرون الخيرية عند ممارستهم لإدارة مخاطر الفتن، فيميلون بمنهجيتهم القلقة كل الميل لقطع دابر الفتن، من خلال سحبهم الناعم لتشريعات تشمل تسهيلات منحها السابقون في لباس النساء الحرائر و المملوكات. و شتان بين أحكام متزنة أصدرها السابقون في القرون الخيرية بمنهجيتها المؤسساتية و الجريئة في ادارة مخاطر فتن النساء، و أحكام منحازة و قلقة أصدرتها مؤسسة اللاحقون المبتلية برهاب (فوبيا) فتن النساء، حتى انتهى بهم الأمر بمنعهم النساء من قيادة السيارة درأً للفتنة، ليأتي العلامة ناصر الدين الألباني رحمه الله و يخالفهم قائلاً ما معناه: إسألوهم، ألا يجوز شرعاً للمرأة أن تركب الحمارة؟ و أيهما أكثر فتنة، ركوبها السيارة أم ركوبها الحمارة؟!

كما ترى أيها القارئ الكريم، فالعلامة العثيمين رحمه الله يؤكد أن فقهاء المسلمين رحمهم الله إعتبروا عورة الأَمَة في الصلاة و في النَّظر، ما بين السُّرَّة و الرُّكبة. ثم ينقل لنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية و إبن حزم رحمهم الله عارضا الفقهاء (و السابقون في القرون الخيرية). ثم يتبين لنا أن حجة شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله ظنيه و لا تستند الى دليل صريح و صحيح. لأنه إفترض فرضية تحتمل خطأ 600 سنة، حين إفترض أن الإماء في عهد الرسول (ﷺ) كُنَّ لا يحتجبن كالحرائر لأن الفتنة بهنَّ أقلُّ، و أنهن كنَّ غير حسناوات و يُشبهنَ القواعدَ مـن النِّساء (خلاف الاماء التركيات في زمانه). و عليه، يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجوب أن تَستُر الأَمَة المملوكة كلَّ بدنها عن أنظار الرجال، حالها حال المسلمة الحرة، لأن الأمَة "أنثى" كالحرة، بغض النظر عن إختلاف ادوارهما، و هو بهذا أقرب الى إتباع منهجية اللاحقون القلقة و المنحازة، من منهجية السابقون الواثقة المتزنة!

ثم إن ما بين شيخ الاسلام إبن تيمية رحمه الله و بين القرون الخيرية من 3 الى 6 قرون، و هي مدة طويلة جداً و لا تُأهِّله أن يحكم في درجة حسن الاماء في القرون الخيرية، الا بسلطان الدليل. فاين السلطان و الدليل؟ ثم من قال أن الاماء العربيات و اليهوديات و الشاميات و الفارسيات في القرون الخيرية كُنَّ أقل حُسناً و جمالا من الاماء التركيات؟! {إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَ مَا تَهوَى ٱلأَنفُسُ} سورة النجم، الآية 23. يبدوا لي أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يبني رأيه على الظن، و يخالف بذلك (بحسن نية و بهدف درء الفتنة) ما مارسه السابقون في القرون الخيرية.

هنا، يتضح لنا كيف تتغير سلوكيات و ممارسات المجتمعات عبر العقود و القرون و تنحرف تدريجياً عن أصولها بين الإفراط و التفريط، لتزداد تَحَرُّراً فدمارا (كإفراط الليبراليين) او تزداد تَحَفُّظاً فدماراً (كتفريط الغلاة في التحفظ). إن الزمن كفيل بتغيير الامم و الاخلال في توازنها و انحرافها تدريجيا عن جوهرها النقي و المتزن من دون وعي منها، تماماً كما إنحرف قوم نوح (ﷺ) عبر القرون من عدالة التوحيد إلى ظلم الشرك. أو كما إنحرف المجتمع المسلم عبر القرون من أصله المؤسساتي العادل إلى حاضره الظني الظالم.

و يتضح لنا أيضا أن العلماء أمثال شيخ الاسلام ابن تيمية و ابن حزم و العلامة العثيمين و غيرهم رحمهم الله، نماذج لعلماء على درجة عالية من التحفظ عند التعامل مع عورة الأمة، تفوق ما كان عليه السابقون في القرون الخيرية. و كأن المحافظون الجُّدد يتمنون أن يمسحوا بهدوء ذاكرة الامة الاسلامية و يعيدوا تعريف عورة الأَمَة المملوكة لتكون كعورة المسلمة الحرة رغم اختلاف أدوارهما (كما في حالة شيخ الاسلام ابن تيمية و العلامة العثيمين و غيرهم رحمهم الله)، و يمنعوا المسلمة الحرة من أن تخرج في بيتها على مملوكها متبرجة (كما في حالة الامام ابن حزم و غيره رحمهم الله)، خوفاً من الفتنة.

و لعل إختلاف العلماء في تفسير الآية 31 من سورة النور {أَو مَا مَلَكَت أَیمَـٰنُهُنَّ}، كفيل ليتضح لنا  سعي المحافظون الجُّدد الحثيث في التضييق على كل ما هو واسع، و في كل ما يبدوا لهم إباحيٌ و مفسدة من ممارسات السابقون في القرون الخيرية، بالرغم من وضوح الآيات و الأحاديث الصحيحة. و اليكم ما جاء في أسباب النزول، تفسير البغوي:

"إخْتَلَف العلماء فِي تفسير {أَو مَا مَلَكَت أَیمَـٰنُهُنَّ}، فَقَالَ قَوْمٌ: عَبْدُ الْمَرْأَةِ (المسلمة الحرة) مَحْرَمٌ لَهَا، فَيَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ عَفِيفًا، وَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَدَنِ مَوْلَاتِهِ إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَ الرُّكْبَةِ، كَالْمَحَارِمِ و َهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَ أُمِّ سَلَمَةَ رضوان الله عليهما".

"وَ قَالَ قَوْمٌ: هُوَ (العبد) كَالْأَجْنَبِيِّ مَعَهَا (المسلمة الحرة)، وَ هُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ (تابعي) رحمه الله، و َقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْإِمَاءُ دُونَ الْعَبِيدِ. و عن ابن جريج (رحمه الله) أنه قال: أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أنه لا يحل لامرأة مسلمة (حرة) أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المرأة المشركة أَمَة لها".

https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/baghawy/sura24-aya31.html

 و الجدير بالذكر، كما ينقله لنا موقع الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله، إن تفسير الامام ابن تيمية و العلامة ابن العثيمين رحمهما الله للآية السابقة و موقفهما من نظر المملوك الى زينة سيدته المسلمة، يعتبر موقف مؤسساتي بحت، إذ انه مبني على حاجة  المسلمة الحرة و ليس جنسها. يقول الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله:

و قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "و على هذا فقوله : "أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ" يدل على أن لها أن تبدي الزينة الباطنة لمملوكها. و فيه قولان: قيل المراد الإماء، و الإماء الكتابيات، كما قاله ابن المسيب و رجحه أحمد و غيره . و قيل: هو المملوك الرجل: كما قاله ابن عباس و غيره، و هو الرواية الأخرى عن أحمد. فهذا يقتضي جواز نظر العبد إلى مولاته، و قد جاءت بذلك أحاديث و هذا لأجل الحاجة؛ لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد و المعامل و الخاطب، فإذا جاز نظر أولئك فنظر العبد أولى، و ليس في هذا ما يوجب أن يكون محرمًا يسافر بها، كغير أولي الإربة، فإنهم يجوز لهم النظر و ليسوا محارم يسافرون بها، فليس كل من جاز له النظر جاز له السفر بها و لا الخلوة بها، بل عبدها ينظر إليها للحاجة و إن كان لا يخلو بها و لا يسافر بها، فإنه لم يدخل في قوله (ﷺ): "لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم" فإنه يجوز له أن يتزوجها إذا عتق، كما يجوز لزوج أختها أن يتزوجها إذا طلق أختها، و المحرم من تحرم عليه على التأبيد" انتهى من "مجموع الفتاوى" (22/111) .

https://islamqa.info/ar/answers/184458/

الخلاصة: لا يقول بجواز "رضاع الكبير" الا مجتمع مؤسساتي جريء و ذو شأن كبير. و لا يساوي عورة الإماء بعورة الرجال، الا مجتمع مؤسساتي جريء و راقٍ كقمم الجبال. و لا يَعدُّ عورة الحرة أمام مملوكها من السرة الى الركبة، الا مجتمع جريء و قد بلغت روح المؤسساتية به قمة الاتزان. فالمجتمع المؤسساتي الجريء هو من يفرش النجاح لأفراده بالتسهيل و التبسيط، فياخذ الغايات بعين الحسبان و من ثم يوازن بين الأدوار و مخاطرها، و يختار أعدل الخيرين أو الشرين.

و العلة ليست في الروايات، و إنما في نفسياتنا القلقة و عقدة الإباحية و رهاب فتنة النساء. فالآيات و الروايات منسجمة تماماً مع الروح المؤسساتية للسابقون في القرون الخيرية بممارساتهم الجريئة و المتزنة و الواقعية. نحن في غناً عن التَّكلُف بالبحث عن ما يقدح في سند و متن رواية، تجيز ممارسة تبدوا لنا و كأنها إباحية.

فلنتذكر بأن العفة و الشرف و محاربة الفساد، كانت قيم أساسية في مجتمعات القرون الخيرية، و لنحذر من أن تكون غلونا في التحفظ صفة الراغبين عن سنته (ﷺ) و صفة من هم أكثر ملكية من الملك. لذا، أرى الحل في أن تستعيد أمتنا شخصيتها المؤسساتية و الجريئة.

2 Arabs
3 Others
4 Muslims
6 بالعربية
bg
Logo_Header
The latest articles
رضاع الكبير و إستعادة شخصيتنا المؤسساتية
4 February 2023

رضاع الكبير و إستعادة شخصيتنا المؤسساتية

بقلم: خالد الخاجة

 

و الحل في أن تستعيد أمتنا شخصيتها المؤسساتية و الجريئة. و الى ذلك الحين، لن أستغرب إن إستنكر المسلمون في عصرنا تشريعات و ممارسات عمل بها السابقون من رواد القرون الخيرية (مجتمع مؤسساتي) على عهد الرسول محمد (ﷺ) و سلفه الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم، و التابعين لهم باحسان.

فمُخرجات منهجية السابقون من القرون الخيرية كانت مؤسساتية و متزنة، تراعي الواقع و المهام و الواجبات و المخاطر. في حين أن مُخرجات منهجية اللاحقون لهم، هي مجموعة من التشريعات و الممارسات المنحازة، فتميل كل الميل لمحاربة مخاطر الفتن دون مراعاة للمهام و الواجبات. و هذا ما يجعلنا نعبس و نتولى عن ما يبدوا لنا و كأنها ممارسات إباحية و متهورة، كانت شائعة بين السابقين في القرون الخيرية. و لأننا عاجزون عن تكذيب تلك الممارسات القرآنية الصحيحة و الصريحة، نسعى بحسن نية إلى تأويلها أو تقييدها و التضييق عليها، درءاً للفتنة.

الى الآن، لن الومك أيها القارئ الكريم إذا رددت في نفسك و انت تحك ذقنك مذهولاً و مُشككاً: قد جُنَّ خالد و ضل! أقول: إطمئن يا فارس الحقيقة، و أعرني آذان عقلك الحر و قلبك الشجاع، و إنهي القرآءة الى خط النهاية، و من ثم لك أن تحكم علي بالجنون أو الماسونية.

و لكي نستسيغ هذا الحل، لابد أن نتطرق الى عدد من مُخرجات السابقون في القرون الخيرية و منهجياتهم المؤسساتية و الجريئة، و هي: عورة المسلمة الحرة و عورة الأَمَة المسلمة و رضاع الكبير، علماً بأن هذه الممارسات تعد استثنائية و مدهشة اذا ما قورنت بالممارسات التي كانت تعم العالم في تلك العصور.

أولا: عورة المسلمة الحرة

أجاز السابقون في القرون الخيرية أن تتبرج المسلمة الحرة في بيتها أمام مملوكها الذكر البالغ، و أجازوا لها أن تكتفي بستر عورتها (من السرة الى الركبة) و تخفيف ملابسها إذا إقتضت الحاجة، و بالتالي إعفائها من مشقة و عقبة إرتداء الحجاب و الثياب في بيتها أمام مملوكها الذكر، و بالرغم من المخاطر و الفتن التي قد تترتب على المجتمع بسبب تبرجها. فقد إعتبروا المملوك من محارمها الرجال بهدف تحسين جودة حياتها و إعانتها على أن تقَرَّ في بيتها، و هي الغاية الأسمى كما في الآية 33 من سورة الأحزاب }وَ قَرنَ فِی بُیُوتِكُنَّ وَ لَا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ ٱلجَـٰهِلِیَّةِ ٱلأُولَىٰ{. و بموجب هذا التشريع الجريء، تم مساواة المسلمة الحرة بالمسلم الحر في حق امتلاك العبيد (الذكور). في الحقيقة، هذا تشريع مؤسساتي بحت، يوازن بين منافع أن تَقرَّ الحُرَّة في بيتها و مخاطر تبرجها امام مملوكها الذكر، بمنتهى الواقعية و العدالة و الانسانية. و إقرأ إن شئت في تفسير  الآية 31 من سورة النور {أَو مَا مَلَكَت أَیمَـٰنُهُنَّ}.

كما أجاز السابقون في القرون الخيرية للنساء الَّاتي قَعَدنَ عن الولد و الحيض و الأزواج بسبب الكبر، أن تضع بعض ثيابها أمام الرجال بشرط عدم التزين، و ذلك بهدف تحسين جودة حياة المُقعَدات من النساء الحرائر بتمكينها من تخفيف ملابسها، و بالتالي إعفائها من مشقة و عقبة إرتداء الجلباب و الرداء فوق ثيابها. في الحقيقة، هذا تشريع مؤسساتي بحت، يوازن بين منافع إحتشام المسلمة الحُرَّة المُقعَدة و مخاطر تبرجها أمام الرجال، بمنتهى الواقعية و العدالة و الانسانية. و إقرأ إن شئت في تفسير الآية 60 من سورة النور {فَلَیسَ عَلَیهِنَّ جُنَاحٌ أَن یَضَعنَ ثِیَابَهُنَّ}.

 ثانيا: عورة الأَمَة المسلمة

إعتبر السابقون في القرون الخيرية عورة الأَمَة المسلمة (الجارية و المملوكة البالغة) كعورة الرجل، من السُّرة الى الركبة. و يهدف هذا التشريع الجريء الى تحسين جودة حياة النساء المملوكات و اللاتي أُمِرنَ بانجاز الأعمال الشاقة خارج البيت كالرجال المسلمين الأحرار. و عليه، قاموا بمساواتها بالمسلم الحر و تمكينها من تخفيف ملابسها إذا إقتضى عملها ذلك، و بالتالي إعفاؤها من مشقة و عقبة إرتداء الحجاب و الثياب أثناء أداء واجباتها، كما يفعل المسلم الحر. و بمقتضى هذا الحكم، لا بأس على الأَمَة المسلمة أن تأخذ بالرخصة و تضع ثيابها، بالرغم من المخاطر التي قد تترتب على المجتمع بسبب تبرجها. في الحقيقة، هذا تشريع مؤسساتي بحت، يوازن بين منافع قيام الأَمَة بمهام الرجال و مخاطر تبرجها على المجتمع، بمنتهى الواقعية و العدالة و الانسانية.

 ثالثا: رضاع الكبير

و أجاز بعض السابقون في القرون الخيرية و على رأسهم المصطفى (ﷺ)، ممارسة "رضاع الكبير" بهدف تحسين جودة حياة النساء الَّاتي أُمِرنَ بأن يَقَرنَ في بيوتهن، و ذلك بتمكينها من توسيع نطاق محارمها من الذكور عند الحاجة من خلال إرضاع الكبير البالغ الحر، و بالتالي إعفائها من مشقة إرتداء الحجاب و التستر في بيتها أمام من يرتاد عليها باستمرار. في الواقع، ما تكشفه هذه الرواية لنا هو مدى واقعية ذاك المجتمع المسلم النقي و تقدمه فكرياً و ثقافياً. فهذا تشريع مؤسساتي بحت، يوازن بين منافع أن تَقرَّ المسلمة الحُرَّة في بيتها و مخاطر تبرجها أمام معين لا تستطيع أن تستغني عنه و يرتاد عليها كثيرا او مخاطر خروجها المتكرر من البيت لقضاء حوائجها اليومية، بمنتهى الواقعية و العدالة و الانسانية.

و إعلم أيها القارئ الكريم أن رواية "رضاع الكبير" صحيحة و رَوَتهَا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و أرضاها. و إعلم بأنني كرجل مؤسساتي أعتز بهذه الرواية و أخواتها، و أجدها من أعمق الرويات و إن كانت غريبة، و لا أجد حرجاً في قبولها البتة. و إليك نموذجاً لتلك الرواية، و رقمها 1453 كما وردت في صحيح الامام مسلم رحمه الله، كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير:

"عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ (ﷺ) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ (و َهُوَ حَلِيفُهُ).‏ فَقَالَ النَّبِيُّ (ﷺ): ‏"‏أَرْضِعِيهِ"‏.‏ قَالَتْ: وَ كَيْفَ أُرْضِعُهُ وَ هُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟! فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) و َقَالَ: ‏"‏قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ"‏.‏

https://sunnah.com/muslim:1453a

و قد نقل لنا الدكتور ماهر ياسين الفحل (كلية العلوم الاسلامية، الرمادي، جامعة الأنبار، قسم الفقه و أصوله) في بحثه المتميز "لا تحريم بإرضاع الكبير" قول جمهور العلماء بأن: الرضاع الذي يؤثر في التحريم هو ما كان في  الحولين (أول سنتين من عمر الرضيع). فإذا أرضع الصبي بعد تجاوزهما، فلا أثر لهذا الرضاع في التحريم. و هذا رأي الرافضين لرضاع الكبير، و الدكتور ماهر يرجح هذا الرأي في بحثه. إلا أنه قد نقل لنا أيضاً أقوال للمتقدمين في مسألة رضاع الكبير، و هي كالتالي:

القول الأول: من رفض رضاع الكبير مطلقاً، و هذا كما ذكر الدكتور ماهر هو رأي معظم الصحابة رضوان الله عليهم و جمهور العلماء.

القول الثاني: من قَبَلَ برضاع الكبير مطلقاً، و هذا رأي بعض الصحابة و على رأسهم أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليهم.

القول الثالث و الوسط (و هو الذي أميل اليه): من قبل رضاع الكبير عند الحاجة و ليس مطلقاً. و هذا الرأي إختاره الامام ابن تيمية رحمه الله، و حكاه عنه الامام ابن القيم رحمه الله و ذكر أنه الأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث، و اختاره أيضاً الامام الشوكاني و الامام الصنعاني و غيرهما رحمهم الله. و الأكثرون من القائلين بهذا الرأي يرون أن تجمع المرضعة حليبها في كأس ليشرب منه الكبير، دون الحاجة الى الملامسة.

الأمثلة السابقة تجسد مدى واقعية و اتزان احكام السابقون في القرون الخيرية. فقد كانوا يعينون المسلمة الحرة للعمل بالآية 33 من سورة الأحزاب {وَ قَرنَ فِی بُیُوتِكُنَّٰ} من خلال مساواة حقوقها بحقوق الرجال في إمتلاك العبيد، و يعينون الأَمَة المسلمة على العمل الشاق خارج البيت كالرجل المسلم الحر من خلال مساواة عورتها بعورة الرجال. يا له من مجتمع جريء و واقعي و متزن و مؤسساتي!

و يتجلى لنا تميز السابقون في القرون الخيرية، إن تأملنا في التشريعات التي لم يتبنوها. فعلى سبيل المثال، في مسألة تعامل المسلمة الحرة مع مملوكها، كان بامكانهم أن يحرموا على المسلمة الحرة أن تمتلك مملوكاً ذكراً من باب درء الفتنة، فيحرموها بذلك من ما يحل للمسلم الحر، و لكنهم لم يستسيغوا هذا الحل. و كان بامكانهم أن يوجبوا الحجاب على المسلمة الحرة في حضرة مملوكها الذكر من باب درء الفتنة، فيشقوا بذلك عليها في بيتها، ولكنهم لم يتبنوا هذا الحكم.

و يعلل الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله على موقعه الالكتروني سبب تساهل السابقون في القرون الخيرية بشأن عورة الأَمَة المسلمة قائلاً:

"جاء الشرع بالتفريق بين الحرائر و الإماء، فالحرة تحتجب الحجاب الكامل، و الأمة تبرز، و يجوز لها كشف رأسها و يديها و وجهها لكثرة الحاجة في استخدامهن، و كان فرض الحجاب عليهن مما يشق مشقة بالغة".

https://islamqa.info/ar/answers/220750

كما يصف لنا الشيخ محمد صالح المنجد على موقعه الالكتروني إماء الخليفة عمر رضي الله عنه، قائلاً:

"قال البيهقي رحمه الله في سننه  3222: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّ إِمَاءُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَخْدِمْنَنَا كَاشِفَاتٍ عَنْ شُعُورِهِنَّ تَضْرِبُ ثُدِيّهُنَّ". و هذا إسناد حسن.

https://islamqa.info/ar/answers/198645/

و نقل لنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى، كيف كان الخليفة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه يضرب الأَمَة المملوكة إذا خرجت و هي متحجبة كالمسلمات الحرائر:

"و كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا وَ قَالَ: أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ أَيْ لَكَاع؟"

https://islamqa.info/ar/answers/198645/

و للأسف الشديد و كما ذكرت سابقاً، لا أحتاج لإجراء إستبيان لأجزم بأن الأغلبية من عامة الأمة اليوم ستستنكر الأمثلة السابقة و ستجد حتى الحديث عنها إثارة للمَفسَدَة. بل و ستعتبرها ممارسات إباحية و  متهورة، رغم أنها كانت شائعة بين السابقون في القرون الخيرية.

أما أئمتنا الأجلاء و علماؤنا الكرام، فلم ينكروا أن في زمن القرون الخيرية، كان بامكان الأَمَة المسلمة (و إن كانت بالغة) أن تخرج على الرجال و هي تغطي ما بين سرتها و ركبتها، حالها حال المسلم الحر. و لم ينكروا بأن الأَمَة المسلمة (على خلاف المسلمة الحرة) كانت مُطَالبَة بأداء العمل الشاق خارج البيت كالمسلم الحر (لا أن تَقَرَّ بالبيت كالمسلمة الحُرة). إلا أن العلماء إختلفوا في جزئيات مسألة رضاع الكبير أو عورة الاَمَة المسلمة أمام الرجال أو عورة المسلمة الحُرة أمام مملوكها الذكر، بحسب عُرفهم و درجة تحفظهم. فالعلماء فئات ثلاث:

الفئة الأولى: فئة جليلة و  مخلصة، ولكنها بالغت في تحفظها و قلقها من الفتن، و ربما تعاني من رهاب (فوبيا) الفتن. فتُقدِّم مصلحة المجتمع على الفرد في سبيل القضاء على جميع الفتن، و لا ترضى بالتعايش مع الفتن إطلاقاً، مهما عظم الثمن على الفرد و مهما صغرت خطورة الفتنة على المجتمع. إلا أنهم (كشيخ الاسلام ابن تيمية و الامام ابن حزم و العلامة العثيمين، رحمهم الله) يحضون بثقتي، فهم صحابة عصرهم و أئمتي و قدوتي و إن اختلفت معهم في بعض الأمور.

الفئة الثانية: فئة انهمزمت لليبرالية، ضحية للاستعمار و من مخرجاته، تبالغ في تساهلها و متهورة في تعاملها مع الفتن، و قد تُقَدم مصلحة الفرد على المجتمع. فترضي بالتعايش مع مخاطر الفتن "كأمر واقع"، و مهما عظمت خطورة و ثمن تلك المخاطر على المجتمع. و من علاماتهم القدح في علم الحديث و الطعن في عدالة الصحابة و تأويل القرآن بما تهوى أنفسهم بهدف محاكات الغرب الليبرالي. هؤلاء لا يحضون بثقتي و لا أعدهم قدوتي، و إن اتفقت معهم في بعض الأمور.

الفئة الثالثة: فئة وسط و منهجيتها مؤسساتية، حيث توازن بين مخاطر الفتن و حقوق الفرد و المجتمع. و قد ترضي بالتعايش مع شيء من الفتن المحسوبة في سبيل تحقيق مصلحة أعظم، و هي منهجية الأكثرون من السابقون في القرون الخيرية. هؤلاء (كالشيخ عادل الكلباني و الشيخ صالح المغامسي، حفظهم الله) يحضون بثقتي و تقديري، فهم صحابة عصرهم و أئمتي و قدوتي و إن اختلفت معهم في بعض الأمور.

لذلك و بالرغم من اختلاف وظائف الأَمَة و الحرة، إعتبر علماؤنا الأجلاء من الفئة الأولى عورة الأَمَة كالمسلمة الحرة (الأنثى كالأنثى) و رفضوا التعايش مع فتنة تبرج الأَمَة، وفق منهجية تُولي القضاء على المخاطر و درء المفاتن أهمية قصوى، و دون مراعاة لحقوق الأَمَة كانسانة و بالرغم من إختلاف مهامها عن المسلمة الحرة. و لأن علماؤنا من الفئة الأولى صادقون و أمناء، نجدهم عاجزون عن تكذيب تلك الممارسات الصريحة و الصحيحة و التي كانت رائجة في عهد السابقين. لذا، يسعون جاهدين إلى تأويلها أو تقييدها (بحسن نية) في سبيل القضاء على الفتن.

بينما إعتبر علماؤنا من الفئة الثالثة عورة الأَمَة كعورة الرجل (العاملة كالعامل) وفق منهجية مؤسساتية توازن بين مخاطر الفتن و الحقوق و المهام. فأخذوا بعين الاعتبار مصلحة الطرفين (الأَمَة و المجتمع). فاستنتجوا بأن من الأنانية و الظلم أن يستفيد المجتمع من قيام الأَمَة المسلمة باعمال الرجل المسلم الحر من دون أن تستفيد الأمَة من التسهيلات التي ينعم بها المسلم الحر في زيه (عورته) خارج البيت. لذا، إرتضوا بالتعايش مع مخاطر فتنة تبرج الأَمَة خارج بيتها.

و ينقل موقع "المكتبة الشاملة الحديثية" و كذلك موقع الشيخ محمد صالح المنجد، كلام العلامة العثيمين رحمه الله في "شرح الممتع"، قائلاً:

"الأَمَةُ (و لو بالغة) و هي المملوكة، فعورتها من السُّرَّة إلى الرُّكبة. فلو صلَّت الأَمَةُ مكشوفة البدن ما عدا ما بين السُّرَّة و الرُّكبة، فصلاتها صحيحة، لأنَّها سترت ما يجب عليها سَتْرُه في الصَّلاة".

https://al-maktaba.org/book/31615/29982

"و أما في باب النَّظر: فقد ذكر الفقهاءُ رحمهم الله تعالى أن عورة الأَمَة أيضاً ما بين السُّرَّة و الرُّكبة. ولكن شيخ الإسلام رحمه الله في باب النَّظر عارض هذه المسألة، كما عارضها ابن حزم في باب النَّظر و في باب الصَّلاة، و قال ابن حزم:

"إن الأَمَة كالحُرَّة، لأن الطَّبيعة واحدة و الخِلْقَة واحدة، و الرِّقُّ وصف عارض خارج عن حقيقتها و ماهيَّتها، و لا دليلَ على التَّفريق بينها و بين الحُرَّة".

و قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنَّ الإماء في عهد الرسول (ﷺ)، و إن كُنَّ لا يحتجبن كالحرائر، لأن الفتنة بهنَّ أقلُّ، فَهُنَّ يُشبهنَ القواعدَ مـن النِّساء اللاتي لا يرجون نكاحاً، قـال تعالى فيهن {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}" النور: من الآية 60. "و أما الإماء التركيَّات الحِسَان الوجوه، فهذا لا يمكن أبداً أن يَكُنَّ كالإماء في عهد الرسول (ﷺ)، و يجب عليها أن تستر كلَّ بدنها عن النَّظر، في باب النَّظر".

https://islamqa.info/ar/answers/220750/

قال (العلامة العثيمين): "و علَّل ذلك بتعليل جيِّدٍ مقبولٍ، فقال: "إن المقصود من الحجاب هو ستر ما يُخاف منه الفِتنة بخلاف الصَّلاة، و لهذا يجب على الإنسان أن يستتر في الصَّلاة، و لو كان خالياً في مكان لا يطَّلع عليه إلا الله. لكن في باب النَّظر إنما يجب التَّستر حيث ينظر الناس". قال: "فالعِلَّة في هذا غير العِلَّة في ذاك، فالعِلَّة في النَّظر: خوف الفتنة، و لا فرق في هذا بين النِّساء الحرائر و النِّساء الإماء".

و قوله صحيح بلا شكٍّ، و هو الذي يجب المصير إليه". انتهى كلام العلامة العثيمين، رحمه الله.

https://al-maktaba.org/book/31615/29982

عزيزي القارئ، إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح و تكميلها و تعطيل المفاسد و تقليلها. لذا، أتفق مع أئمتي الكرام أمثال ابن تيمية و ابن حزم و العثيمين رحمهم الله بإن إدارة مخاطر الفتن و إيجاد ما يزيلها أو ما يخفف عنها، تُعد ضرورة تشريعية و في صميم العمل المؤسساتي المحمود. لكن و بالرغم من أن إدارة مخاطر الفتن كانت أيضاً من أولويات مؤسسة السابقون في القرون الخيرية، إلا أننا نجدهم قد إختاروا التعايش مع بعض المخاطر و الفتن (التي أقلقت اللاحقون) بدلا من إزالتها، عملاً بمبدأ الأخذ بأدنى الشرين. و الدليل على ذلك، تقبل السابقون في القرون الخيرية التعايش مع مخاطر فتنة تبرج المسلمة الحرة في بيتها أمام مملوكها الذكر، و تقبلهم التعايش مع فتنة تبرج الأمَة المسلمة أمام الرجال خارج البيوت.

بل إن مؤسسة السابقون في القرون الخيرية قد تقبلت التعايش مع مخاطر فتنة الشرك و الكفر (و هي أمُّ المخاطر و الفتن) على أطفال المسلمين، عندما أَقرَّت للرجل المسلم الزواج من اليهودية و النصرانية، و بالتالي التعايش مع مخاطر فتنة إتخاذه مشركات و كافرات كأُمهات و مربيات لأطفاله.

ثم أعجب عندما أجد اللاحقون أمثال أئمتي الكرام ابن تيمية و ابن حزم و العثيمين رحمهم الله، و هم يزهدون في نهج السابقين في القرون الخيرية عند ممارستهم لإدارة مخاطر الفتن، فيميلون بمنهجيتهم القلقة كل الميل لقطع دابر الفتن، من خلال سحبهم الناعم لتشريعات تشمل تسهيلات منحها السابقون في لباس النساء الحرائر و المملوكات. و شتان بين أحكام متزنة أصدرها السابقون في القرون الخيرية بمنهجيتها المؤسساتية و الجريئة في ادارة مخاطر فتن النساء، و أحكام منحازة و قلقة أصدرتها مؤسسة اللاحقون المبتلية برهاب (فوبيا) فتن النساء، حتى انتهى بهم الأمر بمنعهم النساء من قيادة السيارة درأً للفتنة، ليأتي العلامة ناصر الدين الألباني رحمه الله و يخالفهم قائلاً ما معناه: إسألوهم، ألا يجوز شرعاً للمرأة أن تركب الحمارة؟ و أيهما أكثر فتنة، ركوبها السيارة أم ركوبها الحمارة؟!

كما ترى أيها القارئ الكريم، فالعلامة العثيمين رحمه الله يؤكد أن فقهاء المسلمين رحمهم الله إعتبروا عورة الأَمَة في الصلاة و في النَّظر، ما بين السُّرَّة و الرُّكبة. ثم ينقل لنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية و إبن حزم رحمهم الله عارضا الفقهاء (و السابقون في القرون الخيرية). ثم يتبين لنا أن حجة شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله ظنيه و لا تستند الى دليل صريح و صحيح. لأنه إفترض فرضية تحتمل خطأ 600 سنة، حين إفترض أن الإماء في عهد الرسول (ﷺ) كُنَّ لا يحتجبن كالحرائر لأن الفتنة بهنَّ أقلُّ، و أنهن كنَّ غير حسناوات و يُشبهنَ القواعدَ مـن النِّساء (خلاف الاماء التركيات في زمانه). و عليه، يرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجوب أن تَستُر الأَمَة المملوكة كلَّ بدنها عن أنظار الرجال، حالها حال المسلمة الحرة، لأن الأمَة "أنثى" كالحرة، بغض النظر عن إختلاف ادوارهما، و هو بهذا أقرب الى إتباع منهجية اللاحقون القلقة و المنحازة، من منهجية السابقون الواثقة المتزنة!

ثم إن ما بين شيخ الاسلام إبن تيمية رحمه الله و بين القرون الخيرية من 3 الى 6 قرون، و هي مدة طويلة جداً و لا تُأهِّله أن يحكم في درجة حسن الاماء في القرون الخيرية، الا بسلطان الدليل. فاين السلطان و الدليل؟ ثم من قال أن الاماء العربيات و اليهوديات و الشاميات و الفارسيات في القرون الخيرية كُنَّ أقل حُسناً و جمالا من الاماء التركيات؟! {إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَ مَا تَهوَى ٱلأَنفُسُ} سورة النجم، الآية 23. يبدوا لي أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يبني رأيه على الظن، و يخالف بذلك (بحسن نية و بهدف درء الفتنة) ما مارسه السابقون في القرون الخيرية.

هنا، يتضح لنا كيف تتغير سلوكيات و ممارسات المجتمعات عبر العقود و القرون و تنحرف تدريجياً عن أصولها بين الإفراط و التفريط، لتزداد تَحَرُّراً فدمارا (كإفراط الليبراليين) او تزداد تَحَفُّظاً فدماراً (كتفريط الغلاة في التحفظ). إن الزمن كفيل بتغيير الامم و الاخلال في توازنها و انحرافها تدريجيا عن جوهرها النقي و المتزن من دون وعي منها، تماماً كما إنحرف قوم نوح (ﷺ) عبر القرون من عدالة التوحيد إلى ظلم الشرك. أو كما إنحرف المجتمع المسلم عبر القرون من أصله المؤسساتي العادل إلى حاضره الظني الظالم.

و يتضح لنا أيضا أن العلماء أمثال شيخ الاسلام ابن تيمية و ابن حزم و العلامة العثيمين و غيرهم رحمهم الله، نماذج لعلماء على درجة عالية من التحفظ عند التعامل مع عورة الأمة، تفوق ما كان عليه السابقون في القرون الخيرية. و كأن المحافظون الجُّدد يتمنون أن يمسحوا بهدوء ذاكرة الامة الاسلامية و يعيدوا تعريف عورة الأَمَة المملوكة لتكون كعورة المسلمة الحرة رغم اختلاف أدوارهما (كما في حالة شيخ الاسلام ابن تيمية و العلامة العثيمين و غيرهم رحمهم الله)، و يمنعوا المسلمة الحرة من أن تخرج في بيتها على مملوكها متبرجة (كما في حالة الامام ابن حزم و غيره رحمهم الله)، خوفاً من الفتنة.

و لعل إختلاف العلماء في تفسير الآية 31 من سورة النور {أَو مَا مَلَكَت أَیمَـٰنُهُنَّ}، كفيل ليتضح لنا  سعي المحافظون الجُّدد الحثيث في التضييق على كل ما هو واسع، و في كل ما يبدوا لهم إباحيٌ و مفسدة من ممارسات السابقون في القرون الخيرية، بالرغم من وضوح الآيات و الأحاديث الصحيحة. و اليكم ما جاء في أسباب النزول، تفسير البغوي:

"إخْتَلَف العلماء فِي تفسير {أَو مَا مَلَكَت أَیمَـٰنُهُنَّ}، فَقَالَ قَوْمٌ: عَبْدُ الْمَرْأَةِ (المسلمة الحرة) مَحْرَمٌ لَهَا، فَيَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ عَفِيفًا، وَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَدَنِ مَوْلَاتِهِ إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَ الرُّكْبَةِ، كَالْمَحَارِمِ و َهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَ أُمِّ سَلَمَةَ رضوان الله عليهما".

"وَ قَالَ قَوْمٌ: هُوَ (العبد) كَالْأَجْنَبِيِّ مَعَهَا (المسلمة الحرة)، وَ هُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ (تابعي) رحمه الله، و َقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْإِمَاءُ دُونَ الْعَبِيدِ. و عن ابن جريج (رحمه الله) أنه قال: أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أنه لا يحل لامرأة مسلمة (حرة) أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المرأة المشركة أَمَة لها".

https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/baghawy/sura24-aya31.html

 و الجدير بالذكر، كما ينقله لنا موقع الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله، إن تفسير الامام ابن تيمية و العلامة ابن العثيمين رحمهما الله للآية السابقة و موقفهما من نظر المملوك الى زينة سيدته المسلمة، يعتبر موقف مؤسساتي بحت، إذ انه مبني على حاجة  المسلمة الحرة و ليس جنسها. يقول الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله:

و قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "و على هذا فقوله : "أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ" يدل على أن لها أن تبدي الزينة الباطنة لمملوكها. و فيه قولان: قيل المراد الإماء، و الإماء الكتابيات، كما قاله ابن المسيب و رجحه أحمد و غيره . و قيل: هو المملوك الرجل: كما قاله ابن عباس و غيره، و هو الرواية الأخرى عن أحمد. فهذا يقتضي جواز نظر العبد إلى مولاته، و قد جاءت بذلك أحاديث و هذا لأجل الحاجة؛ لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد و المعامل و الخاطب، فإذا جاز نظر أولئك فنظر العبد أولى، و ليس في هذا ما يوجب أن يكون محرمًا يسافر بها، كغير أولي الإربة، فإنهم يجوز لهم النظر و ليسوا محارم يسافرون بها، فليس كل من جاز له النظر جاز له السفر بها و لا الخلوة بها، بل عبدها ينظر إليها للحاجة و إن كان لا يخلو بها و لا يسافر بها، فإنه لم يدخل في قوله (ﷺ): "لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم" فإنه يجوز له أن يتزوجها إذا عتق، كما يجوز لزوج أختها أن يتزوجها إذا طلق أختها، و المحرم من تحرم عليه على التأبيد" انتهى من "مجموع الفتاوى" (22/111) .

https://islamqa.info/ar/answers/184458/

الخلاصة: لا يقول بجواز "رضاع الكبير" الا مجتمع مؤسساتي جريء و ذو شأن كبير. و لا يساوي عورة الإماء بعورة الرجال، الا مجتمع مؤسساتي جريء و راقٍ كقمم الجبال. و لا يَعدُّ عورة الحرة أمام مملوكها من السرة الى الركبة، الا مجتمع جريء و قد بلغت روح المؤسساتية به قمة الاتزان. فالمجتمع المؤسساتي الجريء هو من يفرش النجاح لأفراده بالتسهيل و التبسيط، فياخذ الغايات بعين الحسبان و من ثم يوازن بين الأدوار و مخاطرها، و يختار أعدل الخيرين أو الشرين.

و العلة ليست في الروايات، و إنما في نفسياتنا القلقة و عقدة الإباحية و رهاب فتنة النساء. فالآيات و الروايات منسجمة تماماً مع الروح المؤسساتية للسابقون في القرون الخيرية بممارساتهم الجريئة و المتزنة و الواقعية. نحن في غناً عن التَّكلُف بالبحث عن ما يقدح في سند و متن رواية، تجيز ممارسة تبدوا لنا و كأنها إباحية.

فلنتذكر بأن العفة و الشرف و محاربة الفساد، كانت قيم أساسية في مجتمعات القرون الخيرية، و لنحذر من أن تكون غلونا في التحفظ صفة الراغبين عن سنته (ﷺ) و صفة من هم أكثر ملكية من الملك. لذا، أرى الحل في أن تستعيد أمتنا شخصيتها المؤسساتية و الجريئة.

URL copied to clipboard!