تصور حديث للفوبيا في أطروحة البلخي في القرن 9 الميلادي: قوت الجسد و الروح
تأليف: رانيا عواد و سارة علي
ترجمة: خالد الخاجة
الخلاصة
تم ذكر المخاوف المرضية و الرهاب في المخطوطات الدينية و الفلسفية و الطبية منذ العصور القديمة. و على الرغم من الرؤى المبكرة من قبل الإغريق، لم يظهر الرهاب كظاهرة سريرية منفصلة في الطب الغربي حتى القرن 17، ثم تطور بشكل كبير منذ ذلك الحين. و مع ذلك، ظهرت تحقيقات قوية تحاول فك رموز الطبيعة السريرية للرهاب في عصور ما قبل الحداثة خلال العصر الذهبي الإسلامي الذي غالبا ما يتم تجاهله (القرون 9 الى 12 ميلادية)، و التي تداخلت مع فترة العصور الوسطى في أوروبا. فقد قام العالم المسلم في القرن 9 الميلادي، أبو زيد البلخي، بمحاولة مبتكرة في مخطوطته الطبية "قوت الجسد و الروح"، لتعريف الرهاب ككيان تشخيصي منفصل. كان البلخي من أوائل من جمعوا الأعراض النفسية و الجسدية للرهاب تحت فئة واحدة، و هي "الفزعة"، و حدد لها خطة إدارة محددة. نقوم هنا بتحليل وصف البلخي للرهاب، وفقا للفهم الحديث للتصنيفات النفسية و الأعراض كما هو موضح في DSM-5 (الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطراب العقلية).
المقدمة
خضعت تعاريف و أوصاف و تصنيفات الاضطرابات العقلية لعقود من التطور و إعادة التنظيم المفاهيمي، و التي تأثرت بالعوامل المجتمعية و الثقافية و الاقتصادية المتغيرة (كانينو و اليغريا 2008، كيرماير و يونغ 1999، ليلينفيلد و مارينو 1995). معرفة تاريخ التعاريف و التصنيفات النفسية أمر حتمي لأسباب عديدة: يشرح فهم الحالات النفسية التي ظلت مستقرة مقابل تلك التي تغيرت بمرور الوقت، و العوامل التي تؤثر على هذه التغييرات، و آثارها على رعاية الصحة العقلية (جونز، جرين، دافين، و هارلي، 2014). كذلك، يخبر التاريخ مقدمي الرعاية تقدير الجذور الثقافية و المجتمعية التي تؤثر على تصور المرض العقلي، و بالتالي فهم سلوكيات تبحث عن المساعدة لدى الأفراد و السكان (جونز إل آل.، 2014).
و الهدف من هذه الورقة ذو شقين. سيكون هدفنا الأول هو تسليط الضوء على التقدم الكبير و المساهمات التي تحققت خلال العصر الذهبي الإسلامي (القرون 9 الى 12 ميلادية) في فهم الاضطرابات النفسية. و سيتم تحقيق ذلك من خلال تسليط الضوء على عمل البلخي المهم في تعريف و وصف الرهاب. أما هدفنا الثاني فهو تحليل مخطوطة البلخي في ضوء DSM-5 (الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطراب العقلية) و مناقشة آثارها العملية. و من خلال القيام بذلك، نأمل أيضا في فهم العوامل التاريخية التي ربما أثرت على تصورات الاضطرابات النفسية في المجتمعات الإسلامية الكلاسيكية.
مصطلح الرهاب مشتق من المصطلح اليوناني "فوبوس"، و الذي يعني الذعر و الخوف و الرعب (إيريرا 1962، ماركس 1970). يتضح تصنيف الرهاب وفقا لحالة مخيفة من خلال البادئات التي لا تعد و لا تحصى المرتبطة بكلمة رهاب من قبل الإغريق (ماركس، 1970). على سبيل المثال، رهاب الماء يعني الخوف من الماء أو رهاب الخلاء يعني الخوف من الأسواق. علاوة على ذلك، تم ذكر اثنين من أقدم الأوصاف السريرية للرجال الذين لديهم مخاوف مفرطة في مجموعة أبقراط (إيريرا 1962، هيملهوخ و ليفين و جيرشون 2001). و مع ذلك، من الضروري ملاحظة أن الأطباء اليونانيين اعتبروا المخاوف المرضية و الرهاب جزءا من اضطراب عقلي أطلقوا عليه اسم "الكآبة" و ليس اضطرابا سريريا قائما بذاته (كاسبر و دين بوإير و سيستين 2003 الصفحات 1 الى 7). و يعتقد الأطباء اليونانيون أيضا أن الكآبة كانت ناجمة عن غلبة الصفراء السوداء ( black bile). بحلول ظهور العصر الروماني، قام كاليوس اوريليانوس (Caelius Aurelianus) و هو طبيب روماني، بتجميع الرهاب مع الهوس في تصنيفاته (إيريرا 1962).
في الفترة ما بين القرنين الخامس و الثامن عشر في أوروبا الغربية، ظهرت أوصاف المظاهر النفسية للرهاب في أعمال الفلاسفة و اللاهوتيين. ومع ذلك، لم يعتبر الرهاب أمراضا طبية كما يتضح من الأعمال العلمية من هذه الفترة الزمنية (إيريرا 1962).
و يؤكد مؤرخو علم النفس المعاصرون، أنه لم يظهر مفهوم الرهاب في الأدب الطبي أو النفسي حتى القرن 18 الميلادي (بينفينوا و ووييك و إستين 2009، إيريرا 1962، هيميلهوش إت آل. 2001) كمرض طبي قائم بذاته (ماركس، 1970). في الأعمال العلمية من القرنين 17 و 18، بدأ استخدام مصطلح الرهاب في وصف المخاوف الشديدة بما لا يتناسب مع التحفيز الظاهر. كان فهم الرهاب المميز لهذه الحقبة هو أنها كانت مرضا نفسيا، إما قائما بذاته أو جزءا من كوكبة من الأعراض في اضطراب أكبر، أصاب الأفراد بمخاوف لا يمكن تفسيرها أدت بهم بعد ذلك إلى تجنب التحفيز المخيف (ماركس، 1970). حاليا، ينظر DSM-5 (الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطراب العقلية) إلى الرهاب على أنه خوف أو قلق ملحوظ يتعلق بموقف أو كائن معين لا يتناسب مع الخطر الفعلي للكائن أو الموقف. عادة ما يرتبط هذا الخوف الشديد بزيادة في الإثارة الفسيولوجية، تستمر لأكثر من ستة أشهر و تسبب ضائقة كبيرة سريريا في المجالات الاجتماعية أو المهنية أو غيرها من مجالات الحياة المهمة.
و خلال ذروة الحكم العباسي، القرون 9 الى 12 ميلادية، شهدت المجتمعات الإسلامية طفرة هائلة في الإنتاج العلمي يشار إليها الآن باسم العصر الذهبي الإسلامي (أحمد و عامر 2012، فلاغاس، زرقادولية، و سمونيس 2006 و فرندلي 2008). في الوقت الذي كان فيه العالم الإسلامي على وشك الشروع في ما يعادل عصر النهضة، كانت أوروبا في العصور الوسطى تنحدر إلى ما يسمى الآن "العصور المظلمة" (الصفحات 205-206). في تناقض صارخ مع العصور المظلمة، تطور البحث العلمي و الفهم في ظل الحكم العباسي على قدم و ساق (فلاغاس ات آل. 2006). على سبيل المثال، بنى الحكام العباسيون مؤسسات، مثل بيت الحكمة، حيث ترجمت النصوص الطبية القديمة من اليونانية و السريانية إلى العربية (عوض و علي 2015، مجيد 2005 والاس وجاتش 2010، الصفحات 205 الى 206). كان الغرض من هذه المؤسسات هو استفادة العلماء و الأطباء و الباحثين الذين يعيشون في العالم الإسلامي من المعرفة الطبية للأسلاف اليونانيين و الرومان. و بمجرد ترجمتها إلى اللغة العربية، طور علماء العالم الإسلامي العلوم الطبية للقدماء من خلال المساهمة بملاحظاتهم السريرية و تجاربهم و علاجاتهم المبتكرة (عوض و علي 2015، غوريني 2007، غراتسياني 1980، مجيد 2005، تشاموروف 2006). و في وقت لاحق، ترجمت المخطوطات الطبية من العصر الذهبي الإسلامي من العربية إلى اللاتينية، و من المحتمل أنها وصلت إلى أوروبا بهذه الطريقة (عوض و علي 2015، حسين 1970، شانكس و القلعي 1984).
اكتسبت الكتب الطبية لجالينوس و أبقراط شهرة كبيرة بين أطباء العالم الإسلامي (كاسب اي آل. 2003 الصفحات 1 الى 7، يوسف، يوسف، و دينينغ، 1996; والاس وجاتش، 2010 الصفحات 205-206). ومن ثم، فليس من المستغرب أن يستخدم العلماء المسلمون نظرية الصفراء السوداء كنموذج تفسيري للعديد من الاضطرابات العقلية. و بالمثل، وصف معظم العلماء المخاوف المرضية و الرهاب خلال العصر الذهبي الإسلامي بنفس الطريقة التي وصف بها أسلافهم اليونانيون. كانت المخاوف و الرهاب إما تعتبر أعراضا نفسية ذاتية تشكل جزءا من متلازمة أخرى، أي "الكآبة"، أو تم إدراجها كأعراض جسدية للأمراض الجسدية، أي خلل وظيفي في الأعضاء.
و المثال التوضيحي هو وصف المخاوف المرضية من قبل ابن سينا (980 الى 1037)، المعروف في الغرب باسم افيسينا، في موسوعته الطبية الشهيرة قانون الطب (ابن سينا، 1877). وفقا لابن سينا، يمكن أن تظهر المخاوف من أصل غير معروف كأحد أعراض الكآبة الخفيفة. و مع ذلك، إذا كان الحزن شديدا، فمن المحتمل أن يكون الشخص يعاني من "الفزعة"، و هو ما يترجم إلى رهاب أو ذعر. و أشار أيضا إلى أن الرهاب الموجود في الكآبة الشديدة عادة ما يكون غير واقعي و من أنواع لا حصر لها. و أوضح أن مثل هذا الرهاب قد يترافق مع الأعراض الجسدية، و يمكن الخلط بينه و بين الأمراض الجسدية. علاوة على ذلك، أكد ابن سينا أن هناك علاقة بين نبض المرء و حالته النفسية. على سبيل المثال، إذا ظهر رهاب "الفزعة" فجأة، فإنه يرتبط بنبض سريع و غير منتظم. أما إذا كان "الفزعة" يأتي تدريجيا أكثر، فإن النبض يشبه نبض "الغم"، و هو بطيء و ضعيف و متغير. في قسم آخر من القانون في الطب، عزا ابن سينا المخاوف المفرطة كعرض من أعراض اضطراب عصبي أطلق عليه اسم "الرعشة"، أو اهتزاز الجسم.
و على غرار فهم ابن سينا للفوبيا، رأى الرازي (865-925) و نجيب الدين السمرقندي (1097) في كتابيهما "الحاوي" (الحسين والعقبي، 1977) و "الأسباب و العالمات" (السمرقندي 1222)، أن الرهاب هو المظهر النفسي للحزن. و تماشيا مع رأي ابن سينا الثاني، وصف ثابت بن قرة الحراني (836-901) في موسوعته الطبية "الذخيرة"، الفزعة كسبب أساسي للاضطراب العصبي المسمى "الرعشة"، و هو اهتزاز الجسم (كردي، 2010).
على حد علمنا، لم يتم وصف المخاوف المرضية و الرهاب ككيان تشخيصي منفصل في أشهر المخطوطات الطبية في العالم الإسلامي. و مع ذلك، فإن الاستثناء من هذه القاعدة العامة هو المخطوطة الطبية التي تعود إلى القرن 9 الميلادي "مصالح الأبدان و الأنفس" (قوت الجسد و الروح) التي ألفها العالم المسلم أبو زيد البلخي، و التي خصص فيها فصلا كاملا عن تصنيف و تشخيص و علاج "الفزعة" بطريقة مشابهة جدا للفهم الحديث للفوبيا.
مخطوط البلخي "قوت الجسد و الروح" و وصفه للفوبيا
كان أبو زيد أحمد بن سهل البلخي عالما مسلما موسوعيا من خراسان، عاش في أواخر القرن 9 الميلادي (البلخي، مصري و الحياة، 2005؛ البلخي، بدري و أشوي، 2003). تاريخيا، تشير خراسان إلى المنطقة الواقعة بين الهند و العراق، و كانت جزءا من الإمبراطورية الإسلامية خلال حياة البلخي. لم يكن البلخي طبيبا ممارسا (البلخي و آخرون، 2005; عواد و علي، 2015)؛ بدلا من ذلك، برع في الطب النظري.
مخطوطته "مصالح الابدان و الأنفس" مكتوبة باللغة العربية، و تترجم إلى "قوت الجسد و الروح". كلمة "أبدان" في اللغة العربية هي جمع كلمة "بدن" و تعني الجسم. كلمة "أنفس" هي جمع الكلمة "النفس" و تعني الروح. يستند تحليلنا لعمل البلخي إلى مخطوطته العربية الأصلية الموجودة في الكتاب الذي يحمل الاسم "مصالح الابدان و الأنفس"، و التي إستنسخت بواسطة "البلخي ات آل" (2005) و نشرته معهد المخطوطات العربية و منظمة الصحة العالمية. تم العثور على نفس المخطوطة العربية الأصلية أيضا في نسخة بلخي - سيزكين و سليمانية - أومومي كوتوفانيسي (1998) تحت نفس العنوان.
يتكون كتاب البلخي من قسمين. يركز القسم الأول "مصالح الأبدان" على الحفاظ على الصحة البدنية، في حين أن الثاني "مصالح الأنفس" مخصص للصحة النفسية. ينقسم القسم الخاص بمصالح الأنفس إلى ثمانية فصول تغطي مواضيع الصحة العقلية المختلفة، مثل تعريف الصحة العقلية، و أهمية علوم الصحة العقلية، و الوقاية من اضطرابات الصحة العقلية. في الفصول الخمسة الأخيرة، البلخي يناقش تصنيف الاضطرابات النفسية و يقدم طرق العلاج المقترحة.
في الفصل السادس و أجزاء من الفصل الرابع، يعرف البلخي و يصف اضطرابا نفسيا قائما بذاته يسميه "الفزعة". من خلال مقارنة وصفه لهذا الاضطراب بأوصاف اضطرابات القلق الموجودةDSM-5 ، يتطابق "الفزعة" بشكل وثيق مع معايير الرهاب المحددة. يصف البلخي "الفزعة" بأنه خوف مفرط ينتج عن الرؤية أو السماع أو التفكير....
الخاتمة
على الرغم من أن مفهوم الرهاب كان معروفا منذ العصور القديمة، إلا أن البلخي كان من أوائل من اعتبروه كيانا تشخيصيا منفصلا. من المحتمل أيضا أن يكون من أوائل من أوضحوا أنه على الرغم من أن الرهاب هو اضطراب أساسي، إلا أنه قد يظهر بأعراض جسدية. كما هو موضح سابقا في الجدول، فإن غالبية السمات التشخيصية الحديثة لأنواع الرهاب المحددة تتطابق مع وصف "الفزعة" الموجود في مخطوطة البلخي. علاوة على ذلك، قد يكون هذا الاستنتاج...
مجلة اضطرابات القلق (المجلد 37، يناير 2016، الصفحات 89-93)
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0887618515300347
تصور حديث للفوبيا في أطروحة البلخي في القرن 9 الميلادي: قوت الجسد و الروح
تأليف: رانيا عواد و سارة علي
ترجمة: خالد الخاجة
الخلاصة
تم ذكر المخاوف المرضية و الرهاب في المخطوطات الدينية و الفلسفية و الطبية منذ العصور القديمة. و على الرغم من الرؤى المبكرة من قبل الإغريق، لم يظهر الرهاب كظاهرة سريرية منفصلة في الطب الغربي حتى القرن 17، ثم تطور بشكل كبير منذ ذلك الحين. و مع ذلك، ظهرت تحقيقات قوية تحاول فك رموز الطبيعة السريرية للرهاب في عصور ما قبل الحداثة خلال العصر الذهبي الإسلامي الذي غالبا ما يتم تجاهله (القرون 9 الى 12 ميلادية)، و التي تداخلت مع فترة العصور الوسطى في أوروبا. فقد قام العالم المسلم في القرن 9 الميلادي، أبو زيد البلخي، بمحاولة مبتكرة في مخطوطته الطبية "قوت الجسد و الروح"، لتعريف الرهاب ككيان تشخيصي منفصل. كان البلخي من أوائل من جمعوا الأعراض النفسية و الجسدية للرهاب تحت فئة واحدة، و هي "الفزعة"، و حدد لها خطة إدارة محددة. نقوم هنا بتحليل وصف البلخي للرهاب، وفقا للفهم الحديث للتصنيفات النفسية و الأعراض كما هو موضح في DSM-5 (الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطراب العقلية).
المقدمة
خضعت تعاريف و أوصاف و تصنيفات الاضطرابات العقلية لعقود من التطور و إعادة التنظيم المفاهيمي، و التي تأثرت بالعوامل المجتمعية و الثقافية و الاقتصادية المتغيرة (كانينو و اليغريا 2008، كيرماير و يونغ 1999، ليلينفيلد و مارينو 1995). معرفة تاريخ التعاريف و التصنيفات النفسية أمر حتمي لأسباب عديدة: يشرح فهم الحالات النفسية التي ظلت مستقرة مقابل تلك التي تغيرت بمرور الوقت، و العوامل التي تؤثر على هذه التغييرات، و آثارها على رعاية الصحة العقلية (جونز، جرين، دافين، و هارلي، 2014). كذلك، يخبر التاريخ مقدمي الرعاية تقدير الجذور الثقافية و المجتمعية التي تؤثر على تصور المرض العقلي، و بالتالي فهم سلوكيات تبحث عن المساعدة لدى الأفراد و السكان (جونز إل آل.، 2014).
و الهدف من هذه الورقة ذو شقين. سيكون هدفنا الأول هو تسليط الضوء على التقدم الكبير و المساهمات التي تحققت خلال العصر الذهبي الإسلامي (القرون 9 الى 12 ميلادية) في فهم الاضطرابات النفسية. و سيتم تحقيق ذلك من خلال تسليط الضوء على عمل البلخي المهم في تعريف و وصف الرهاب. أما هدفنا الثاني فهو تحليل مخطوطة البلخي في ضوء DSM-5 (الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطراب العقلية) و مناقشة آثارها العملية. و من خلال القيام بذلك، نأمل أيضا في فهم العوامل التاريخية التي ربما أثرت على تصورات الاضطرابات النفسية في المجتمعات الإسلامية الكلاسيكية.
مصطلح الرهاب مشتق من المصطلح اليوناني "فوبوس"، و الذي يعني الذعر و الخوف و الرعب (إيريرا 1962، ماركس 1970). يتضح تصنيف الرهاب وفقا لحالة مخيفة من خلال البادئات التي لا تعد و لا تحصى المرتبطة بكلمة رهاب من قبل الإغريق (ماركس، 1970). على سبيل المثال، رهاب الماء يعني الخوف من الماء أو رهاب الخلاء يعني الخوف من الأسواق. علاوة على ذلك، تم ذكر اثنين من أقدم الأوصاف السريرية للرجال الذين لديهم مخاوف مفرطة في مجموعة أبقراط (إيريرا 1962، هيملهوخ و ليفين و جيرشون 2001). و مع ذلك، من الضروري ملاحظة أن الأطباء اليونانيين اعتبروا المخاوف المرضية و الرهاب جزءا من اضطراب عقلي أطلقوا عليه اسم "الكآبة" و ليس اضطرابا سريريا قائما بذاته (كاسبر و دين بوإير و سيستين 2003 الصفحات 1 الى 7). و يعتقد الأطباء اليونانيون أيضا أن الكآبة كانت ناجمة عن غلبة الصفراء السوداء ( black bile). بحلول ظهور العصر الروماني، قام كاليوس اوريليانوس (Caelius Aurelianus) و هو طبيب روماني، بتجميع الرهاب مع الهوس في تصنيفاته (إيريرا 1962).
في الفترة ما بين القرنين الخامس و الثامن عشر في أوروبا الغربية، ظهرت أوصاف المظاهر النفسية للرهاب في أعمال الفلاسفة و اللاهوتيين. ومع ذلك، لم يعتبر الرهاب أمراضا طبية كما يتضح من الأعمال العلمية من هذه الفترة الزمنية (إيريرا 1962).
و يؤكد مؤرخو علم النفس المعاصرون، أنه لم يظهر مفهوم الرهاب في الأدب الطبي أو النفسي حتى القرن 18 الميلادي (بينفينوا و ووييك و إستين 2009، إيريرا 1962، هيميلهوش إت آل. 2001) كمرض طبي قائم بذاته (ماركس، 1970). في الأعمال العلمية من القرنين 17 و 18، بدأ استخدام مصطلح الرهاب في وصف المخاوف الشديدة بما لا يتناسب مع التحفيز الظاهر. كان فهم الرهاب المميز لهذه الحقبة هو أنها كانت مرضا نفسيا، إما قائما بذاته أو جزءا من كوكبة من الأعراض في اضطراب أكبر، أصاب الأفراد بمخاوف لا يمكن تفسيرها أدت بهم بعد ذلك إلى تجنب التحفيز المخيف (ماركس، 1970). حاليا، ينظر DSM-5 (الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطراب العقلية) إلى الرهاب على أنه خوف أو قلق ملحوظ يتعلق بموقف أو كائن معين لا يتناسب مع الخطر الفعلي للكائن أو الموقف. عادة ما يرتبط هذا الخوف الشديد بزيادة في الإثارة الفسيولوجية، تستمر لأكثر من ستة أشهر و تسبب ضائقة كبيرة سريريا في المجالات الاجتماعية أو المهنية أو غيرها من مجالات الحياة المهمة.
و خلال ذروة الحكم العباسي، القرون 9 الى 12 ميلادية، شهدت المجتمعات الإسلامية طفرة هائلة في الإنتاج العلمي يشار إليها الآن باسم العصر الذهبي الإسلامي (أحمد و عامر 2012، فلاغاس، زرقادولية، و سمونيس 2006 و فرندلي 2008). في الوقت الذي كان فيه العالم الإسلامي على وشك الشروع في ما يعادل عصر النهضة، كانت أوروبا في العصور الوسطى تنحدر إلى ما يسمى الآن "العصور المظلمة" (الصفحات 205-206). في تناقض صارخ مع العصور المظلمة، تطور البحث العلمي و الفهم في ظل الحكم العباسي على قدم و ساق (فلاغاس ات آل. 2006). على سبيل المثال، بنى الحكام العباسيون مؤسسات، مثل بيت الحكمة، حيث ترجمت النصوص الطبية القديمة من اليونانية و السريانية إلى العربية (عوض و علي 2015، مجيد 2005 والاس وجاتش 2010، الصفحات 205 الى 206). كان الغرض من هذه المؤسسات هو استفادة العلماء و الأطباء و الباحثين الذين يعيشون في العالم الإسلامي من المعرفة الطبية للأسلاف اليونانيين و الرومان. و بمجرد ترجمتها إلى اللغة العربية، طور علماء العالم الإسلامي العلوم الطبية للقدماء من خلال المساهمة بملاحظاتهم السريرية و تجاربهم و علاجاتهم المبتكرة (عوض و علي 2015، غوريني 2007، غراتسياني 1980، مجيد 2005، تشاموروف 2006). و في وقت لاحق، ترجمت المخطوطات الطبية من العصر الذهبي الإسلامي من العربية إلى اللاتينية، و من المحتمل أنها وصلت إلى أوروبا بهذه الطريقة (عوض و علي 2015، حسين 1970، شانكس و القلعي 1984).
اكتسبت الكتب الطبية لجالينوس و أبقراط شهرة كبيرة بين أطباء العالم الإسلامي (كاسب اي آل. 2003 الصفحات 1 الى 7، يوسف، يوسف، و دينينغ، 1996; والاس وجاتش، 2010 الصفحات 205-206). ومن ثم، فليس من المستغرب أن يستخدم العلماء المسلمون نظرية الصفراء السوداء كنموذج تفسيري للعديد من الاضطرابات العقلية. و بالمثل، وصف معظم العلماء المخاوف المرضية و الرهاب خلال العصر الذهبي الإسلامي بنفس الطريقة التي وصف بها أسلافهم اليونانيون. كانت المخاوف و الرهاب إما تعتبر أعراضا نفسية ذاتية تشكل جزءا من متلازمة أخرى، أي "الكآبة"، أو تم إدراجها كأعراض جسدية للأمراض الجسدية، أي خلل وظيفي في الأعضاء.
و المثال التوضيحي هو وصف المخاوف المرضية من قبل ابن سينا (980 الى 1037)، المعروف في الغرب باسم افيسينا، في موسوعته الطبية الشهيرة قانون الطب (ابن سينا، 1877). وفقا لابن سينا، يمكن أن تظهر المخاوف من أصل غير معروف كأحد أعراض الكآبة الخفيفة. و مع ذلك، إذا كان الحزن شديدا، فمن المحتمل أن يكون الشخص يعاني من "الفزعة"، و هو ما يترجم إلى رهاب أو ذعر. و أشار أيضا إلى أن الرهاب الموجود في الكآبة الشديدة عادة ما يكون غير واقعي و من أنواع لا حصر لها. و أوضح أن مثل هذا الرهاب قد يترافق مع الأعراض الجسدية، و يمكن الخلط بينه و بين الأمراض الجسدية. علاوة على ذلك، أكد ابن سينا أن هناك علاقة بين نبض المرء و حالته النفسية. على سبيل المثال، إذا ظهر رهاب "الفزعة" فجأة، فإنه يرتبط بنبض سريع و غير منتظم. أما إذا كان "الفزعة" يأتي تدريجيا أكثر، فإن النبض يشبه نبض "الغم"، و هو بطيء و ضعيف و متغير. في قسم آخر من القانون في الطب، عزا ابن سينا المخاوف المفرطة كعرض من أعراض اضطراب عصبي أطلق عليه اسم "الرعشة"، أو اهتزاز الجسم.
و على غرار فهم ابن سينا للفوبيا، رأى الرازي (865-925) و نجيب الدين السمرقندي (1097) في كتابيهما "الحاوي" (الحسين والعقبي، 1977) و "الأسباب و العالمات" (السمرقندي 1222)، أن الرهاب هو المظهر النفسي للحزن. و تماشيا مع رأي ابن سينا الثاني، وصف ثابت بن قرة الحراني (836-901) في موسوعته الطبية "الذخيرة"، الفزعة كسبب أساسي للاضطراب العصبي المسمى "الرعشة"، و هو اهتزاز الجسم (كردي، 2010).
على حد علمنا، لم يتم وصف المخاوف المرضية و الرهاب ككيان تشخيصي منفصل في أشهر المخطوطات الطبية في العالم الإسلامي. و مع ذلك، فإن الاستثناء من هذه القاعدة العامة هو المخطوطة الطبية التي تعود إلى القرن 9 الميلادي "مصالح الأبدان و الأنفس" (قوت الجسد و الروح) التي ألفها العالم المسلم أبو زيد البلخي، و التي خصص فيها فصلا كاملا عن تصنيف و تشخيص و علاج "الفزعة" بطريقة مشابهة جدا للفهم الحديث للفوبيا.
مخطوط البلخي "قوت الجسد و الروح" و وصفه للفوبيا
كان أبو زيد أحمد بن سهل البلخي عالما مسلما موسوعيا من خراسان، عاش في أواخر القرن 9 الميلادي (البلخي، مصري و الحياة، 2005؛ البلخي، بدري و أشوي، 2003). تاريخيا، تشير خراسان إلى المنطقة الواقعة بين الهند و العراق، و كانت جزءا من الإمبراطورية الإسلامية خلال حياة البلخي. لم يكن البلخي طبيبا ممارسا (البلخي و آخرون، 2005; عواد و علي، 2015)؛ بدلا من ذلك، برع في الطب النظري.
مخطوطته "مصالح الابدان و الأنفس" مكتوبة باللغة العربية، و تترجم إلى "قوت الجسد و الروح". كلمة "أبدان" في اللغة العربية هي جمع كلمة "بدن" و تعني الجسم. كلمة "أنفس" هي جمع الكلمة "النفس" و تعني الروح. يستند تحليلنا لعمل البلخي إلى مخطوطته العربية الأصلية الموجودة في الكتاب الذي يحمل الاسم "مصالح الابدان و الأنفس"، و التي إستنسخت بواسطة "البلخي ات آل" (2005) و نشرته معهد المخطوطات العربية و منظمة الصحة العالمية. تم العثور على نفس المخطوطة العربية الأصلية أيضا في نسخة بلخي - سيزكين و سليمانية - أومومي كوتوفانيسي (1998) تحت نفس العنوان.
يتكون كتاب البلخي من قسمين. يركز القسم الأول "مصالح الأبدان" على الحفاظ على الصحة البدنية، في حين أن الثاني "مصالح الأنفس" مخصص للصحة النفسية. ينقسم القسم الخاص بمصالح الأنفس إلى ثمانية فصول تغطي مواضيع الصحة العقلية المختلفة، مثل تعريف الصحة العقلية، و أهمية علوم الصحة العقلية، و الوقاية من اضطرابات الصحة العقلية. في الفصول الخمسة الأخيرة، البلخي يناقش تصنيف الاضطرابات النفسية و يقدم طرق العلاج المقترحة.
في الفصل السادس و أجزاء من الفصل الرابع، يعرف البلخي و يصف اضطرابا نفسيا قائما بذاته يسميه "الفزعة". من خلال مقارنة وصفه لهذا الاضطراب بأوصاف اضطرابات القلق الموجودةDSM-5 ، يتطابق "الفزعة" بشكل وثيق مع معايير الرهاب المحددة. يصف البلخي "الفزعة" بأنه خوف مفرط ينتج عن الرؤية أو السماع أو التفكير....
الخاتمة
على الرغم من أن مفهوم الرهاب كان معروفا منذ العصور القديمة، إلا أن البلخي كان من أوائل من اعتبروه كيانا تشخيصيا منفصلا. من المحتمل أيضا أن يكون من أوائل من أوضحوا أنه على الرغم من أن الرهاب هو اضطراب أساسي، إلا أنه قد يظهر بأعراض جسدية. كما هو موضح سابقا في الجدول، فإن غالبية السمات التشخيصية الحديثة لأنواع الرهاب المحددة تتطابق مع وصف "الفزعة" الموجود في مخطوطة البلخي. علاوة على ذلك، قد يكون هذا الاستنتاج...
مجلة اضطرابات القلق (المجلد 37، يناير 2016، الصفحات 89-93)
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0887618515300347